فلسفة النهضة الحسينية من منظورالقرآن الكريم
سماحة الشيخ إبراهيم الأنصاري
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:
قبل أن نشرح الآيات المباركة نتطرق إلى مقدمَّتين :
الأولى: الحجج الشرعية:
إنَّ الحجَّة الشرعية بعد كتاب الله تعالى هي العترة وتتمثَّل في أمور ثلاثة هي :
1-قول المعصوم : وهو ما يصدر منه من الكلام الدال على المعنى، والقول له شموليَّة أكثر من غيره.
2-فعل المعصوم : وهو كلّ ما يصدر منه من الفعل ، ويدلّ الفعل على الاستحباب.
3-تقرير المعصوم : وهو ما يمضيه من القرارات، ويتصوَّر هذا الأمر في صورة ما لو كان حاضراً في موقف ما وحدث أمرٌ ولم يتَّخذ المعصوم في قباله أيَّ موقف.
وليس من السهل اكتشاف التقرير بل يتطلَّب الدقَّة اللازمة في تصرُّفاته فلعلَّها قد صدرت تقيَّةً أو الأمر له خصوصيَّة من ناحية الزمان أو المكان أو الأشخاص الذين كانوا متواجدين حين الخطاب، وهذا الأمر يجري حتَّى على أفعال الإمام بل أقواله أيضاً.
الثانية : مصداقيَّة القرآن:
وأما بخصوص تفسير القرآن الكريم فللأئمة عليهم السلام أسلوبٌ مميَّز ذكرناه في مقدَّمة كتابنا النور المبين في تفسير القرآن الكريم في تفسير فاتحة الكتاب.
وهاهنا نشير إلى أمرٍ آخر وهو :-
تطبيق القرآن عملاً وذلك بقراءة آية أو آيات في جوٍّ مميَّز وحالة خاصة تفسيراً للآية المباركة، ويتَّسع أفق الآية حسب اتِّساع تلك القضِّية.
وهذا النمط من التفسير هو أروع نماذجه وأفضل أساليبه حيث تظهر قدسيَّة الآية وينعكس روحها في فعل الإمام ، كما أنَّ فعله عليه السلام سوف يبرز مدى عمق مفهوم الآية، فليس هو إلا تمثيل للقرآن وتجسيد لآياته، ومن الواضح أنَّ هذا الأمر له تأثير بالغ في الإنسان أكثر من تأثير القول وإن كان القول له مميَّزات أخرى لا مجال للحديث عنها هنا.
الثالثة : الحسين عليه السلام و القرآن:
لا يخفى على من يتأمَّل في مفهوم الإمامة ويلاحظ حياة الإمام، أنَّ الأئمَّة المعصومين عليهم السلام كانوا تجسيد للدين الحنيف وتطبيق للقرآن المجيد، فهم القرآن الناطق كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((أنا كلام الله الناطق)).
وكلُّ واحد منهم كان له موقع الخاص به وقد ورد أنَّ مواقع النجوم الذي أقسم الله بها وقال:
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}(الواقعة/75،76) قد عنى بها أهل البيت عليهم السلام.
كما أنَّ قوله: {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}(النحل/16) عنى به ذلك.
إنَّ سيد الشهداء أبا عبد الله الحسين عليه السلام لديه خصوصيَّة غير متوفِّرة في غيره، ذلك لأنَّه هو الذي أوجد الحماس المتميِّز للدين والغيرة المنقطة النظير بالنسبة إلى خطّ الإسلام الأصيل، أعني إسلام الجهاد والتضحية وإسلام الشهادة والدم وقد قرأ آيات قرآنية وهو خارج من المدينة المنوَّرة، كما أنّه عند دخوله مكَّة المكرَّمة قرأ آيات أخرى وكذلك حينما كان في مكَّة وفي طريق كربلاء وفي كربلاء بل حتَّى رأسه الشريف وهو على الرمح كان يقرأ القرآن.
فمن المناسب لكلِّ من أراد أن يتعرَّف على سيد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه السلام ونهضته المباركة أن يتعمَّق في تلك الآيات الواردة في هذا المجال، ويحاول أن يعرف مدى ارتباط الآيات بالواقع وعلى ضوء ذلك يتمكن من تفسير وتحليل هذه الثورة المباركة تفسيراً دقيقا، ونحن نحاول أن نبيّن شأن ورود تلك الآيات الكريمة وشأن نزولها وتفسيرها وتطبيقها بمقدار وسعنا وندعو الله أن يوفِّقنا لذلك بلطفه إنَّه هو اللطيف الخبير.
فنبدأ بالآية التالية :
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}(القصص21)
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل}(القصص22)
خائفاً يترقَّب:
كان الإمام الحسين عليه السلام وهو خارج من المدينة يقرأ الآية التالية :
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}(القصص21)
وعند دخوله مكَّة قرأ عليه السلام قوله تعالى :
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل}(القصص22)
قال المفيد ( ره ):
فسار الحسين إلى مكة وهو يقرأ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}(القصص21) ولزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت عن الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب، فقال: لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض، ولما دخل الحسين عليه السلام مكة، كان دخوله إياها يوم الجمعة، لثلاث مضين من شعبان، دخلها وهو يقرأ: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل}(القصص22) ثم نزلها وأقبل أهلها يختلفون إليه، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق .
الآية في شأن موسى:
الآية نزلت في بيان شأن موسى بن عمران عليه السلام وذلك عندما وصل موسى إلى مستوى الكمال في العقل والجسم بفضل من الله تعالى:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}(القصص/14)
حينما دخل في مدينه من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها كما قال تعالى:
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}(القصص15)
وذلك بين المغرب والعشاء، وهذا يدلُّ على أنَّه كان يتحاشى الدخول، فكان أهل المدينة يعادونه وقد شكَّل جبهة مخالفة ضدّ جبهة فرعون، والظاهر من كلمة "دخل" إنَّه كان يعيش خارج المدينة وبما أنَّه كان في قصر فرعون، فالقصر إذاً كان خارج المدينة فبمجرَّد أن دخلها {... فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَن} وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على أنَّه عليه السلام قد تمكَّن من التأثير في الناس على مستوى كبير بحيث وصل الأمر إلى الاقتتال، هذا لو قلنا بأن الحافز للاقتتال كان أمر الدين فحسب.
شـيعة موسـى:
وهاهنا يبيِّن سبحانه الخط الفكري الحاكم على الجهتين المتصارعتين حيث يقول: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ..} فيا ترى ما هو السرّ في ذكر هاتين الصفتين مكرَّرة؟
الظاهر أنَّه تمهيد لما سيتحدَّث عنه بعد ذلك، فكأنَّه يريد بيان الحافز الذي أكَّد لموسى أن يفعل ما فعل من قتل القبطي، لأنَّه بمجرَّد أن عرف أنَّ هذا من شيعته وذاك من عدُّوه، لم يتأمَّل في الأمر {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} والوكز هو الطعن والدفع والضرب بجميع الكف، وهذا يدلُّ على مستوى قوَّته عليه السلام.
موسـى والقتـل !!
إنَّ ما فعله موسى من القتل كان هو الأمر الواجب الذي ينبغي أن يتحقَّق، فلا إشكال في عمل موسى من هذه الناحية.
فما هي المشكلة إذاً ؟
الظاهر أنَّ المشكلة تكمن في أمرٍ آخر وهو :
أنَّ كون ذاك من شيعته كان له دور في موقف موسى، وإن كان هامشياً بسيطاً لأنَّ الله سبحانه يعامل الناس حسب مقاماتهم، وبما أنَّه من المحسنين تمهيداً لكونه من النبيين ثمَّ الصديقين ثم الشهداء فالصالحين فلم يكن المتوقَّع منه ذلك، فإنَّ حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين ومن هنا قال:
{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} (القصص/15)
فلم يكن القتل من عمل الشيطان بل هو أمر إلهي ربّاني، ولكن الشائبة البسيطة التِّي اختلطت معه هي التِّي غيَّرت القضيَّة فصار هذا العمل غير مرضيٍّ بما في الكلمة من معنى.
ظـلمت نفسي :
{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (القصص/16).
وبالفعل كان ذلك ظلماً للنفس من مثل موسى ويحتاج إلى استغفار، ولم يكن ذلك ظلماً للغير بل هو ظلمٌ للنفس وهذا هو شاهد على ما قلناه من أنَّ المشكلة لا تكمن في أصل القتل بل هي راجعة إلى الخصوصيَّة فيها.
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}(القصص/17).
وما هي تلك النعمة التي أنعم الله على موسى ؟ هل هي النعمة التِّي يشير إليها سبحانه في فاتحة الكتاب حيث يقول {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ...}(الفاتحة/7) ؟ قد شرحنا هذه النعمة في تفسيرنا النور المبين.
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}(القصص/18) وهذا أيضاً شاهد آخر على ما قلنا من أنَّ المشكلة إنَّما هي في الخلوص التام ولم يتحقق في موسى حين القتل حيث لم يصل إلى مقام النبوَّة بعد مضافاً إلى أنَّ التطهير المطلق مختص بأهل البيت عليهم السلام بصريح قوله تعالى:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الاحزاب/33)
قال الإمام الخميني ( قدِّس سرُّه ) في بيان شخصيَّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم:
((وهو صاحب الفتح المطلق وواجد لمقام العصمة الكبرى بالأصالة وبقية المعصومين واجدون لذاك المقام تبعا لتلك الذات المقدسة وهو صاحب مقام الخاتمية الذي هو الكمال على الإطلاق، وحيث أن أوصياءه مشتقون من طينته ومتصلون بفطرته فهم أصحاب العصمة المطلقة))
ثمَّ يقول:
((وأما بعض المعصومين من الأنبياء والأولياء عليهم السلام فليسوا أصحاب العصمة المطلقة ولم يكونوا خالين من تصرّف الشيطان ، كما أن توجّه آدم عليه السلام إلى الشجرة كان من تصرفات ابليس كبير الأبالسة))
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}(القصص/19)
ولم يكن بصدد قتله لأنَّ البطش كما قال اللغويون هو "التناول عند الصولة والأخذ الشديد"
وأما كلام القبطي باتهام موسى فليس بصحيح ولو أُمهل موسى لكان يجيب عليه إلا أنَّه جاء رجل من أقصى المدينة.
عين موسـى و عين الحسـين :
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ}(القصص/20)
وهذا الرجل وإن كان بعيداً عن المدينة إلا أنَّه كان مطَّلعاً كمال الإطِّلاع على ما يحدث فيها وما يجري في قصر فرعون ولعلَّه كان عيناً من قبل موسى في قصر فرعون وقد أخبره موسى بالذهاب إلى المدينة وكان يعرف مكان موسى بالدقة، ولا يخفى عليك أنَّ كلمة الملأ تطلق على السواد الذين يملئون العين، قال الراغب في مفرداته في معنى المـلأ:
"جماعة يجتمعون على رأي فيملئون العيون رواء ومنظرا والنفوس بهاء وجلالا" فهم الذين كانوا ملتفِّين حول الطاغية فرعون :
((فقال الحسين عليه السلام: يا أخي والله لو لم يكن (في الدنيا) ملجأ ولا مأوى، لما بايعت يزيد بن معاوية، فقطع محمد بن الحنفية الكلام وبكى، فبكى الحسين عليه السلام معه ساعة ثم قال: يا أخي جزاك الله خيراً، لقد نصحت وأشرت بالصواب وأنا عازم على الخروج إلى مكة، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عينا (عليهم) لا تخفي عني شيئا من أمورهم))(العوالم ص178،179).
كان خوفه لا على نفسه كيف والقرآن يقول: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(البقرة/112). {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(يونس/62). ويقول سبحانه : {...فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(الأعراف/35). والإمام الحسين عليه السلام ينادي: "وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر "
هناك أمور ثلاثة يمكننا أن نفسِّر من خلالها خوف الإمام الحسين عليه السلام:
1-إنـدراس الحـق:
وهذا ما يستفاد من كلمات سيد الشهداء عليه السلام كما في الخطبة الآتية وهي قبل موت معاوية بسنتين حيث حج الإمام الحسين بن على عليهما السلام وعبدالله بن جعفر، وعبدالله بن عباس معه، وقد جمع الحسين بن على عليهما السلام بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم من حج منهم ومن لم يحج، ومن بالأمصار ممن يعرفونه وأهل بيته، ثم لم يدع أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله ومن أبنائهم والتابعين ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلا جمعهم، فاجتمع إليهم بمنى أكثر من ألف رجل فقام الحسين عليه السلام فيهم خطيبا فحمدالله وأثنى عليه ثم قال:
"أمّا بعد فإن هذا الطاغية، قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم، ورأيتم، وشهدتم، وبلغكم. وإني أريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدقوني، وإن كذبت فكذبونى، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم، من أمنتم ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإني أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب، والله متم نوره ولو كره الكافرون."
فما ترك الإمام الحسين عليه السلام شيئا أنزل الله فيهم من القرآن إلا قاله وفسره، ولا شيئا قاله الرسول صلى الله عليه واله في أبيه وأمه وأهل بيته إلا رواه، وكل ذلك يقول الصحابة: اللهم نعم قد سمعناه شهدناه، ويقول التابعون: اللهم قد حدثناه من نصدقه ونأتمنه، حتى لم يترك شيئا إلا قاله. ثم قال: أنشدكم بالله إلا رجعتم وحدثتم به من تثقون به، ثم نزل وتفرق الناس عن ذلك.(الاحتجاج ص150،151)
2-الاغـتيـال :
وكان خوفه من الاغتيال، لا من أجل نفسه بل كان يخاف من أن يهتك بيت الله الحرام، وقد جاء ذلك في حديثه مع ابن الحنفية في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عنمكة، فقال له ابن الحنفية:
" يا أخي إن أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتأن يكون حالك كحال من مضى، فان رأيت أن تقيم فانك أعز من بالحرم وأمنعه."
"فقال: يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم ، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت".
فقال له ابن الحنفية: "فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فانك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد".
فقال: "أنظر فيما قلت".
فكان عليه السلام يعلم بأنّه لا محالة سيقتل كما جاء في كلامه، حيث قال لرجل سأله عن سبب ذهابه إلى كربلاء:
"إن هؤلاء أخافوني وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتلي، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا لله محرما إلا انتهكوه، بعث الله إليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذلّ من قوم الأمة"
وقوله: "وهم قاتلي" أي أنّه سوف يتحقق القتل سواء ذهبت إلى كربلاء أو بقيت في المدينة أو ذهبت إلى أي من البلاد.
3-استجابة الدعاء:
وقد استجيب دعاء الإمام عليه السلام ونجّاه الله من القوم الظالمين كما نجّى فرعون، ولا يهم بعد ذلك ما سيحدث، فربّ نجاة الإنسان تكون في أن يسجن حيث يتم بذلك الحفاظ على الدين كما في قصَّة يوسف، فلا سبيل ثالث في البين إمّا أن يلبي طلباتهنَّ أو يسجن، وقد خيَّر السجن على التورط في الذنب. والظاهر أنّه دعاء ولكن لا على نفسه بالسجن بل بالتخلُّص منهنَّ ولذلك يقول {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(يوسف/34).
فلم يكن هناك حلٌّ إلا أن يقتل الإمام الحسين عليه السلام "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد" وكان يقول " الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول النار" ويقول: "إنى لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما" "خُطّ الموت على ولد آدم مَخطّ القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه" "ألا أن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلّة، يأبى الله ذلك ورسولُه وحجورٌ طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثرُ مصارعَ اللئام على مصارع الكرام".
فبالفعل استجيب الدعاء ونجّاه الله من القوم الظالمين فبالنسبة إلى موسى يقول:
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(القصص/25)
وأما نجاة الإمام الحسين عليه السلام لم يتمّ إلا بالشهادة في سبيل الله تعالى، وهو مقام عظيم ودرجة عالية كما ورد في الحديث: "إنَّ لَكَ دَرَجَةً فِي الجَنَّةِ لاَ تَنَالُهَا إِلاَّ بِالشَّهَادَة".
قال الإمام الخميني قدس سره في الأربعون حديثاً الحديث 15:
"ومن المعلوم أن الصورة الملكوتية للشهادة في سبيل الله لم تحصل إلا بعد وقوع الشهادة في عالم الملك -عالمنا الحاضر- كما برهن على ذلك في العلوم العالية. وورد في الأخبار المذكورة أن لكل عمل في هذا العالم صورة في عالم آخر."
وقد طلبت امرأة فرعون ذلك المقام حيث طلبت عند ربِّها بيتاً في الجنَّة، وقد بلغت من العظمة بمكان، قال تعالى:
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(التحريم/11)
فهي قد تخلَّصت من القوم الظالمين بالشهادة في سبيل الله.
والجدير بالذكر أنّه عليه السلام يقرأ قوله تعالى:
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل}(القصص/22)
وكيف لا يهديه الله إلى سواء السبيل ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت/69).
وقد قال تعالى بالنسبة إلى موسى عليه السلام: {.. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}(طه/39)
ويقول سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين عليه السلام كما نقل السيد:
"هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله"
وقد استجيب دعاء سيد الشهداء عليه السلام ووصل إلى أمنيته وهي لقاء الله فقد نزل في شأنه قوله تعالى:
سماحة الشيخ إبراهيم الأنصاري
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:
{ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل }(القصص21،22)
قبل أن نشرح الآيات المباركة نتطرق إلى مقدمَّتين :
الأولى: الحجج الشرعية:
إنَّ الحجَّة الشرعية بعد كتاب الله تعالى هي العترة وتتمثَّل في أمور ثلاثة هي :
1-قول المعصوم : وهو ما يصدر منه من الكلام الدال على المعنى، والقول له شموليَّة أكثر من غيره.
2-فعل المعصوم : وهو كلّ ما يصدر منه من الفعل ، ويدلّ الفعل على الاستحباب.
3-تقرير المعصوم : وهو ما يمضيه من القرارات، ويتصوَّر هذا الأمر في صورة ما لو كان حاضراً في موقف ما وحدث أمرٌ ولم يتَّخذ المعصوم في قباله أيَّ موقف.
وليس من السهل اكتشاف التقرير بل يتطلَّب الدقَّة اللازمة في تصرُّفاته فلعلَّها قد صدرت تقيَّةً أو الأمر له خصوصيَّة من ناحية الزمان أو المكان أو الأشخاص الذين كانوا متواجدين حين الخطاب، وهذا الأمر يجري حتَّى على أفعال الإمام بل أقواله أيضاً.
الثانية : مصداقيَّة القرآن:
وأما بخصوص تفسير القرآن الكريم فللأئمة عليهم السلام أسلوبٌ مميَّز ذكرناه في مقدَّمة كتابنا النور المبين في تفسير القرآن الكريم في تفسير فاتحة الكتاب.
وهاهنا نشير إلى أمرٍ آخر وهو :-
تطبيق القرآن عملاً وذلك بقراءة آية أو آيات في جوٍّ مميَّز وحالة خاصة تفسيراً للآية المباركة، ويتَّسع أفق الآية حسب اتِّساع تلك القضِّية.
وهذا النمط من التفسير هو أروع نماذجه وأفضل أساليبه حيث تظهر قدسيَّة الآية وينعكس روحها في فعل الإمام ، كما أنَّ فعله عليه السلام سوف يبرز مدى عمق مفهوم الآية، فليس هو إلا تمثيل للقرآن وتجسيد لآياته، ومن الواضح أنَّ هذا الأمر له تأثير بالغ في الإنسان أكثر من تأثير القول وإن كان القول له مميَّزات أخرى لا مجال للحديث عنها هنا.
الثالثة : الحسين عليه السلام و القرآن:
لا يخفى على من يتأمَّل في مفهوم الإمامة ويلاحظ حياة الإمام، أنَّ الأئمَّة المعصومين عليهم السلام كانوا تجسيد للدين الحنيف وتطبيق للقرآن المجيد، فهم القرآن الناطق كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((أنا كلام الله الناطق)).
وكلُّ واحد منهم كان له موقع الخاص به وقد ورد أنَّ مواقع النجوم الذي أقسم الله بها وقال:
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}(الواقعة/75،76) قد عنى بها أهل البيت عليهم السلام.
كما أنَّ قوله: {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}(النحل/16) عنى به ذلك.
إنَّ سيد الشهداء أبا عبد الله الحسين عليه السلام لديه خصوصيَّة غير متوفِّرة في غيره، ذلك لأنَّه هو الذي أوجد الحماس المتميِّز للدين والغيرة المنقطة النظير بالنسبة إلى خطّ الإسلام الأصيل، أعني إسلام الجهاد والتضحية وإسلام الشهادة والدم وقد قرأ آيات قرآنية وهو خارج من المدينة المنوَّرة، كما أنّه عند دخوله مكَّة المكرَّمة قرأ آيات أخرى وكذلك حينما كان في مكَّة وفي طريق كربلاء وفي كربلاء بل حتَّى رأسه الشريف وهو على الرمح كان يقرأ القرآن.
فمن المناسب لكلِّ من أراد أن يتعرَّف على سيد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه السلام ونهضته المباركة أن يتعمَّق في تلك الآيات الواردة في هذا المجال، ويحاول أن يعرف مدى ارتباط الآيات بالواقع وعلى ضوء ذلك يتمكن من تفسير وتحليل هذه الثورة المباركة تفسيراً دقيقا، ونحن نحاول أن نبيّن شأن ورود تلك الآيات الكريمة وشأن نزولها وتفسيرها وتطبيقها بمقدار وسعنا وندعو الله أن يوفِّقنا لذلك بلطفه إنَّه هو اللطيف الخبير.
فنبدأ بالآية التالية :
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}(القصص21)
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل}(القصص22)
خائفاً يترقَّب:
كان الإمام الحسين عليه السلام وهو خارج من المدينة يقرأ الآية التالية :
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}(القصص21)
وعند دخوله مكَّة قرأ عليه السلام قوله تعالى :
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل}(القصص22)
قال المفيد ( ره ):
فسار الحسين إلى مكة وهو يقرأ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}(القصص21) ولزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت عن الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب، فقال: لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض، ولما دخل الحسين عليه السلام مكة، كان دخوله إياها يوم الجمعة، لثلاث مضين من شعبان، دخلها وهو يقرأ: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل}(القصص22) ثم نزلها وأقبل أهلها يختلفون إليه، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق .
الآية في شأن موسى:
الآية نزلت في بيان شأن موسى بن عمران عليه السلام وذلك عندما وصل موسى إلى مستوى الكمال في العقل والجسم بفضل من الله تعالى:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}(القصص/14)
حينما دخل في مدينه من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها كما قال تعالى:
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}(القصص15)
وذلك بين المغرب والعشاء، وهذا يدلُّ على أنَّه كان يتحاشى الدخول، فكان أهل المدينة يعادونه وقد شكَّل جبهة مخالفة ضدّ جبهة فرعون، والظاهر من كلمة "دخل" إنَّه كان يعيش خارج المدينة وبما أنَّه كان في قصر فرعون، فالقصر إذاً كان خارج المدينة فبمجرَّد أن دخلها {... فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَن} وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على أنَّه عليه السلام قد تمكَّن من التأثير في الناس على مستوى كبير بحيث وصل الأمر إلى الاقتتال، هذا لو قلنا بأن الحافز للاقتتال كان أمر الدين فحسب.
شـيعة موسـى:
وهاهنا يبيِّن سبحانه الخط الفكري الحاكم على الجهتين المتصارعتين حيث يقول: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ..} فيا ترى ما هو السرّ في ذكر هاتين الصفتين مكرَّرة؟
الظاهر أنَّه تمهيد لما سيتحدَّث عنه بعد ذلك، فكأنَّه يريد بيان الحافز الذي أكَّد لموسى أن يفعل ما فعل من قتل القبطي، لأنَّه بمجرَّد أن عرف أنَّ هذا من شيعته وذاك من عدُّوه، لم يتأمَّل في الأمر {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} والوكز هو الطعن والدفع والضرب بجميع الكف، وهذا يدلُّ على مستوى قوَّته عليه السلام.
موسـى والقتـل !!
إنَّ ما فعله موسى من القتل كان هو الأمر الواجب الذي ينبغي أن يتحقَّق، فلا إشكال في عمل موسى من هذه الناحية.
فما هي المشكلة إذاً ؟
الظاهر أنَّ المشكلة تكمن في أمرٍ آخر وهو :
أنَّ كون ذاك من شيعته كان له دور في موقف موسى، وإن كان هامشياً بسيطاً لأنَّ الله سبحانه يعامل الناس حسب مقاماتهم، وبما أنَّه من المحسنين تمهيداً لكونه من النبيين ثمَّ الصديقين ثم الشهداء فالصالحين فلم يكن المتوقَّع منه ذلك، فإنَّ حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين ومن هنا قال:
{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} (القصص/15)
فلم يكن القتل من عمل الشيطان بل هو أمر إلهي ربّاني، ولكن الشائبة البسيطة التِّي اختلطت معه هي التِّي غيَّرت القضيَّة فصار هذا العمل غير مرضيٍّ بما في الكلمة من معنى.
ظـلمت نفسي :
{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (القصص/16).
وبالفعل كان ذلك ظلماً للنفس من مثل موسى ويحتاج إلى استغفار، ولم يكن ذلك ظلماً للغير بل هو ظلمٌ للنفس وهذا هو شاهد على ما قلناه من أنَّ المشكلة لا تكمن في أصل القتل بل هي راجعة إلى الخصوصيَّة فيها.
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}(القصص/17).
وما هي تلك النعمة التي أنعم الله على موسى ؟ هل هي النعمة التِّي يشير إليها سبحانه في فاتحة الكتاب حيث يقول {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ...}(الفاتحة/7) ؟ قد شرحنا هذه النعمة في تفسيرنا النور المبين.
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}(القصص/18) وهذا أيضاً شاهد آخر على ما قلنا من أنَّ المشكلة إنَّما هي في الخلوص التام ولم يتحقق في موسى حين القتل حيث لم يصل إلى مقام النبوَّة بعد مضافاً إلى أنَّ التطهير المطلق مختص بأهل البيت عليهم السلام بصريح قوله تعالى:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الاحزاب/33)
قال الإمام الخميني ( قدِّس سرُّه ) في بيان شخصيَّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم:
((وهو صاحب الفتح المطلق وواجد لمقام العصمة الكبرى بالأصالة وبقية المعصومين واجدون لذاك المقام تبعا لتلك الذات المقدسة وهو صاحب مقام الخاتمية الذي هو الكمال على الإطلاق، وحيث أن أوصياءه مشتقون من طينته ومتصلون بفطرته فهم أصحاب العصمة المطلقة))
ثمَّ يقول:
((وأما بعض المعصومين من الأنبياء والأولياء عليهم السلام فليسوا أصحاب العصمة المطلقة ولم يكونوا خالين من تصرّف الشيطان ، كما أن توجّه آدم عليه السلام إلى الشجرة كان من تصرفات ابليس كبير الأبالسة))
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}(القصص/19)
ولم يكن بصدد قتله لأنَّ البطش كما قال اللغويون هو "التناول عند الصولة والأخذ الشديد"
وأما كلام القبطي باتهام موسى فليس بصحيح ولو أُمهل موسى لكان يجيب عليه إلا أنَّه جاء رجل من أقصى المدينة.
عين موسـى و عين الحسـين :
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ}(القصص/20)
وهذا الرجل وإن كان بعيداً عن المدينة إلا أنَّه كان مطَّلعاً كمال الإطِّلاع على ما يحدث فيها وما يجري في قصر فرعون ولعلَّه كان عيناً من قبل موسى في قصر فرعون وقد أخبره موسى بالذهاب إلى المدينة وكان يعرف مكان موسى بالدقة، ولا يخفى عليك أنَّ كلمة الملأ تطلق على السواد الذين يملئون العين، قال الراغب في مفرداته في معنى المـلأ:
"جماعة يجتمعون على رأي فيملئون العيون رواء ومنظرا والنفوس بهاء وجلالا" فهم الذين كانوا ملتفِّين حول الطاغية فرعون :
((فقال الحسين عليه السلام: يا أخي والله لو لم يكن (في الدنيا) ملجأ ولا مأوى، لما بايعت يزيد بن معاوية، فقطع محمد بن الحنفية الكلام وبكى، فبكى الحسين عليه السلام معه ساعة ثم قال: يا أخي جزاك الله خيراً، لقد نصحت وأشرت بالصواب وأنا عازم على الخروج إلى مكة، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عينا (عليهم) لا تخفي عني شيئا من أمورهم))(العوالم ص178،179).
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}(القصص21)
لماذا كان يخاف الإمام الحسين عليه السلام: كان خوفه لا على نفسه كيف والقرآن يقول: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(البقرة/112). {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(يونس/62). ويقول سبحانه : {...فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(الأعراف/35). والإمام الحسين عليه السلام ينادي: "وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر "
هناك أمور ثلاثة يمكننا أن نفسِّر من خلالها خوف الإمام الحسين عليه السلام:
1-إنـدراس الحـق:
وهذا ما يستفاد من كلمات سيد الشهداء عليه السلام كما في الخطبة الآتية وهي قبل موت معاوية بسنتين حيث حج الإمام الحسين بن على عليهما السلام وعبدالله بن جعفر، وعبدالله بن عباس معه، وقد جمع الحسين بن على عليهما السلام بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم من حج منهم ومن لم يحج، ومن بالأمصار ممن يعرفونه وأهل بيته، ثم لم يدع أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله ومن أبنائهم والتابعين ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلا جمعهم، فاجتمع إليهم بمنى أكثر من ألف رجل فقام الحسين عليه السلام فيهم خطيبا فحمدالله وأثنى عليه ثم قال:
"أمّا بعد فإن هذا الطاغية، قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم، ورأيتم، وشهدتم، وبلغكم. وإني أريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدقوني، وإن كذبت فكذبونى، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم، من أمنتم ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإني أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب، والله متم نوره ولو كره الكافرون."
فما ترك الإمام الحسين عليه السلام شيئا أنزل الله فيهم من القرآن إلا قاله وفسره، ولا شيئا قاله الرسول صلى الله عليه واله في أبيه وأمه وأهل بيته إلا رواه، وكل ذلك يقول الصحابة: اللهم نعم قد سمعناه شهدناه، ويقول التابعون: اللهم قد حدثناه من نصدقه ونأتمنه، حتى لم يترك شيئا إلا قاله. ثم قال: أنشدكم بالله إلا رجعتم وحدثتم به من تثقون به، ثم نزل وتفرق الناس عن ذلك.(الاحتجاج ص150،151)
2-الاغـتيـال :
وكان خوفه من الاغتيال، لا من أجل نفسه بل كان يخاف من أن يهتك بيت الله الحرام، وقد جاء ذلك في حديثه مع ابن الحنفية في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عنمكة، فقال له ابن الحنفية:
" يا أخي إن أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتأن يكون حالك كحال من مضى، فان رأيت أن تقيم فانك أعز من بالحرم وأمنعه."
"فقال: يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم ، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت".
فقال له ابن الحنفية: "فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فانك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد".
فقال: "أنظر فيما قلت".
فكان عليه السلام يعلم بأنّه لا محالة سيقتل كما جاء في كلامه، حيث قال لرجل سأله عن سبب ذهابه إلى كربلاء:
"إن هؤلاء أخافوني وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتلي، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا لله محرما إلا انتهكوه، بعث الله إليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذلّ من قوم الأمة"
وقوله: "وهم قاتلي" أي أنّه سوف يتحقق القتل سواء ذهبت إلى كربلاء أو بقيت في المدينة أو ذهبت إلى أي من البلاد.
3-استجابة الدعاء:
وقد استجيب دعاء الإمام عليه السلام ونجّاه الله من القوم الظالمين كما نجّى فرعون، ولا يهم بعد ذلك ما سيحدث، فربّ نجاة الإنسان تكون في أن يسجن حيث يتم بذلك الحفاظ على الدين كما في قصَّة يوسف، فلا سبيل ثالث في البين إمّا أن يلبي طلباتهنَّ أو يسجن، وقد خيَّر السجن على التورط في الذنب. والظاهر أنّه دعاء ولكن لا على نفسه بالسجن بل بالتخلُّص منهنَّ ولذلك يقول {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(يوسف/34).
فلم يكن هناك حلٌّ إلا أن يقتل الإمام الحسين عليه السلام "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد" وكان يقول " الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول النار" ويقول: "إنى لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما" "خُطّ الموت على ولد آدم مَخطّ القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه" "ألا أن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلّة، يأبى الله ذلك ورسولُه وحجورٌ طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثرُ مصارعَ اللئام على مصارع الكرام".
فبالفعل استجيب الدعاء ونجّاه الله من القوم الظالمين فبالنسبة إلى موسى يقول:
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(القصص/25)
وأما نجاة الإمام الحسين عليه السلام لم يتمّ إلا بالشهادة في سبيل الله تعالى، وهو مقام عظيم ودرجة عالية كما ورد في الحديث: "إنَّ لَكَ دَرَجَةً فِي الجَنَّةِ لاَ تَنَالُهَا إِلاَّ بِالشَّهَادَة".
قال الإمام الخميني قدس سره في الأربعون حديثاً الحديث 15:
"ومن المعلوم أن الصورة الملكوتية للشهادة في سبيل الله لم تحصل إلا بعد وقوع الشهادة في عالم الملك -عالمنا الحاضر- كما برهن على ذلك في العلوم العالية. وورد في الأخبار المذكورة أن لكل عمل في هذا العالم صورة في عالم آخر."
وقد طلبت امرأة فرعون ذلك المقام حيث طلبت عند ربِّها بيتاً في الجنَّة، وقد بلغت من العظمة بمكان، قال تعالى:
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(التحريم/11)
فهي قد تخلَّصت من القوم الظالمين بالشهادة في سبيل الله.
والجدير بالذكر أنّه عليه السلام يقرأ قوله تعالى:
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل}(القصص/22)
وكيف لا يهديه الله إلى سواء السبيل ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت/69).
وقد قال تعالى بالنسبة إلى موسى عليه السلام: {.. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}(طه/39)
ويقول سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين عليه السلام كما نقل السيد:
"هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله"
وقد استجيب دعاء سيد الشهداء عليه السلام ووصل إلى أمنيته وهي لقاء الله فقد نزل في شأنه قوله تعالى:
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ،ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ،فَادْخُلِي فِي عِبَادِي،وَادْخُلِي جَنَّتِي}(الفجر27/30).
2 محرم الحرام 1423