عام الحزن (السنة الثالثة قبل الهجرة النبوية الشريفة)
يطل علينا سنويا شهر رمضان المبارك بما فيه من خير وبركات تعم أرجاء المعمورة بأكملها بحيث تُـفتح أبواب الجنة لمن أرادها ليلا ونهارا .. وتُـغلق أبواب النيران حتى لمن عصى الله (دون الشرك به) ليتسنى للجميع مراجعة أنفسهم بالتوبة النصوح .
ومع كل هذه البركات يتجدد الحزن في قلوب المؤمنين وبالخصوص موالي العترة الطاهرة من بيت محمد وآل محمد (ع) بذكرى وفاة بطلين وعزيزين على قلب الرسول الأعظم محمد (ص) بغياب عمه وكافله عبد مناف بن عبد المطلب الملقب بـ أبو طالب وزوجه السيدة الجليلة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (عليهما السلام) .
الرسول (ص) وبرغم الظروف التي أحاطت بالدعوة الإسلامية من عدم قبول البعض في اعتناق الإسلام وترك ما كانوا عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع لم يُـثنه شيء عن الاستمرار في دعوته المباركة متوكلا على الله أولا ومناصرة ممن كانوا حوله من الصادقين وعلى رأسهم عمه أبو طالب وزوجه خديجة (ع) .
وعندما توفى عبد المطلب عهد إلى ابنه أبو طالب وهو الأخ الشقيق الوحيد لعبد الله (والد النبي) برعاية ابن أخيه مع أنه لم يكن الولد الأكبر لأبيه (وهو ما تعارفت عليه قريش في ذلك الوقت بأن السن له دور في القيادة) ولكنه كان يتمتع بنفس طاهرة ومستقيمة ومترفعة عن ملذات الدنيا أهـّلته بأن يقوم مع قومه من بني هاشم بسقاية وإكرام ضيوف بيت الله من الحجيج .
ومع فارق السن الذي كان بينه وبين ابن أخيه النبي محمد (ص) إلا أنه كان يعتني به ويقدمه على أبنائه ويوصيهم به خيرا ليس لقرابته النسبية ، ولكن لإيمانه بأن هذه الدعوة السماوية المباركة ستكون الملاذ الوحيد لخير البشرية . وبرغم المحن التي أحاطت به وبابن أخيه عند بدء الدعوة الإسلامية وانتهاءًا بفرض الحصار القاسي من قِـبل قريش على بني هاشم من عدم مبايعتهم ومناكحتهم والذي استمر لمدة ثلاث سنوات ، إلا أنه كان شديد الحرص على تحقيق رسالة السماء على يد ابن أخيه . وهذا يفند ما كان يُـرّوج له البعض من الجهلة وجحدة الحق بأن أبو طالب قد مات كافرا ، فكيف بهذا الإنسان الذي لم يـُعرف عنه بأنه سجد لصنم قط أن يموت ميتة جاهلية (والعياذ بالله) .
يذكر التاريخ بأن أبو طالب (ع) كانت له أشعارا كثيرة وفي شتى الميادين .. وهذا مما قاله في مدح الرسول (ص) متحديا كل من وقف ضده :-
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر فعبد مناف سرها وصميمها
وان حصلت أشراف عبد منافها ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوما فان محمدا هو المصطفى من سرها وكريمها
وجاءت البشرى السارة ليختار الباري للرسول امرأة هي من خير النساء ، ألا وهي السيدة خديجة بنت خويلد(ع) لقول الرسول (ص) : "إنّ الله اختار من النساء أربعاً : مريم وآسية وخديجة وفاطمة" ليبارك أبو طالب هذا الزواج لابن أخيه لينتقل بعدها النبي (ص) إلى من يكمل مشوار الرسالة السماوية معه . فكانت نعم الزوجة التي آمنت برسالته وائتمنته على أموالها في التجارة مما عرفت عنه من صدق وأمانة . وعندما حان موعد الزواج قام عمها ورقة بن نوفل في مكة المكرمة بين زمزم والمقام ليُـشهد القوم بأن السيدة خديجة قد وهبت نفسها ومالها وعبيدها لمحمد (ص) . وكانت أول من صلت خلفه من النساء .. وكانت لها المكانة والشرف العالي عند الباري ، فقد كان يهبط جبرئيل (ع) على النبي (ص) ليبلّـغ سلام الباري لهذه السيدة الفاضلة .
أنجبت السيدة خديجة (ع) من الأولاد القاسم والطيب ومن البنات زينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة (ع) توفوا جميعا في حياتها ما عدا السيدة فاطمة (ع) .
وشاءت الأقدار من بعد جهاد مرير وطويل أن يحين الفراق ويختار الله إلى جواره في شهر رمضان في السنة العاشرة من البعثة النبوية المباركة (السنة الثالثة قبل الهجرة النبوية الشريفة) من كانا يملكان القلب الحنون والإيمان والمناصرة الفعلية للنهوض بالدعوة المباركة ليتوارى جسديهما الطاهر التراب في مصيبة أعظم ما تكون على قلب النبي (ص) وأهل بيته مما حذا بالرسول (ص) بأن يطلق على ذلك العام "عام الحزن" قائلا : "ما اغتممت بغمّ أيام حياة أبي طالب وخديجة" .
فسلام ورضوان من الله تعالى عليك وعلى عمك أبو طالب وزوجك خديجة (عليهما السلام) .. يا رسول الله
بقلم : أم سيد يوسف